Jan 18, 2016

وحدة الوجود هل هي عين التّوحيد أو هي غير التّوحيد ؟

يزعم بعض العلماء والمشائخ القاصرين فى العلوم والمعارف والعقيدة الإسلاميّة ”أنّ وحدة الوجود شيئ ، والتّوحيد شيئ آخر مخالف لها - لوحدة الوجود -، ويقول هؤلاء إنّ التّوحيد هو الإسلام، وإنّ وحدة الوجود مخالفة له - للتّوحيد - كفر صريح، وهؤلاء هم المخطئون فى العقيدة، لاالمصيبون فيها، ولو كانوا أساتيذ المدارس والكلّيّات ومشائخ الطرائق ورؤساء الجمعيات، وهم أطفال على مهد العقيدة الإسلامية، أو صبيان يلعبون بالكرة - كرة العقيدة فى ميدان العقيدة العرفانيّة،

وأمّا العلماء والمشائخ المحقّقون فى العلوم والمعارف والعقائد الإسلاميّة فهم أمناء وخلصاء، وهم المصيبون،  يقولون ”إنّ وحدة الوجود والتّوحيد شيئ واحد باعتبار الخلاصة والمعنى المقصود، لاباعتبار الأسماء والألفاظ، ولافرق بينهما إلاّ فى صورة الألفاظ وأشكالها، والعصارة المأخوذة منهما واحدة، (وهي أنّ الله هو الوجود الحقيقيّ  وأنّ ماسواه عدم محض،) فعلى العاقل ألاّ يغترّ باللّباس، وألاّ يغترّ بالأسماء والألفاظ،“

وأمّا وحدة الوجود فهي العلم بأنّ وجود الله تعالى واحد، لا كثيرة فيه ولاتعدّد، وأنّ ماسوى وجوده عدم محض، فلا وجود لخلق من مخلوقاته إلاّ من حيث الإعتبار والإضافة والوهم، فلذا قال الصوفيّون ”إنّ وجود الخلق اعتباريّ وإضافي ووهميّ، ولاوجود له حقيقي مستقلّ،

وهذا هو الإيمان، وهذا هو الإيقان، وهذا تفصيل وحدة الوجود، وهذا هو روح الإسلام، وهذا هو أساس الإيمان،

فمن أنكر هذا العلم - وحدة الوجود وتفاصيلها المذكورة - فقد أنكر كونَ وجوده تعالى واحدا، وأثبت لكلّ خلق وجودا مستقلاّ له، ومن أثبت الوجود المستقلّ لخلقه تعالى - كما أثبت له تعالى وجودا مستقلاّ فقد أشرك به تعالى شركا جليّا من حيث لا يشعر، ولو لم يعبد صنما أو وثنا، لأنّ فيه معنى إثبات الشريك لله تعالى، كما لايخفى على من بحث بحثا عميقا، إن قدر على ذلك بنفسه، وإلاّ فبمعاونة من له دخل فى فنّ التّوحيد والعقيدة، كالمشائخ المتضلّعين فى علم وحدة الوجود، والأساتيذ الذين تبحّروا فى علم التّصوف الحقيقي،

وأمّا التوحيد فهو عين وحدة الوجود بالنّسبة إلى المعنى المقصود المراد من الكلمة الطيّبة، لأنّ توحيد الواحد محال، وتوحيد الكثرة ممكن، فلا يخفى على من له أدنى فهم أنّ التّوحيد من باب التّفعيل من وَحَّدَ، أي جعل الشيئ واحدا، والله تعالى فى الحقيقة وفى نفس الأمر واحد، فكيف يتصوّر جعل الشيئ الواحد واحدا؟ أليس هذا محالا؟ ولكن جعل الأشياء الكثيرة شيأ واحدا ممكن،

ففُهم ممّا قلت إنّ وحدة الوجود والتّوحيد الحقيقيّ شيئ واحد بالنّسبة إلى الخلاصة والمعنى، فكلّ قائل بوحدة الوجود قائل بالتّوحيد، وكلّ قائل بالتّوحيد قائل بوحدة الوجود، فلا فرق بينهما إلاّ فى الإسم، لا فى المعنى المراد،

وأمّا وحدة الوجود فهي العلم والإعتقاد بأنّ الوجود واحد، - ذات الله تعالى واحدة -، (وهما سيّان فى نفس الأمر كما قلت، ولو اختلف فيها المحجوبون فلا نبالي بقولهم لكونهم محجوبين بالحجب الظلمانيّة) لاكثرة فيه ولا تعدُّد،

وأنّ ذلك الوجود ظهر وتجلّى فى صور المخلوقات كلّها، من الحيوانات والجمادات والنّباتات وغيرها، حتّى الدِّيدان فى داخل مُخِّ بعضِ الحيوانات، وحتّى الحيتان فى الماء، وحتّى الجنين فى البطن، ولكنّ ذلك الوجود لم يفن ولم يتغيّر ولم يتبدّل بظهوره فى ملابس المخلوقات،

وهذا هو الأمر الّذي يخافه المنكرون وحدة الوجود، والعلماء القاصرون والمشائخ الخائفون والأساتيذ المترَدِّدون، لِقِلَّةِ علمهم ودَخلهم فى هذا الفنّ، - وحدة الوجود -، فيظنّ هؤلاء أنّ وجوده تعالى قديم، والقديم لايفنى ولايتغيّر ولايتبدّل، فإن ظهر الوجود بصور المخلوقات - كما يقول الصوفية - فنى ذلك الوجود أو تغيّر أو تبدّل، فيكون مشبّها بالمخلوقات - الحوادث - فى الفناء والتّغيّر والتّبدّل، لأنّ هذه الأمور الثّلاثة المذكورة للحوادث لا للقديم، وهي محال فى القديم لا محالة،
فلذا أنكر هؤلاء وحدة الوجود، وهذا هو السّبب الرئيسيّ لإنكارهم،

وها أنا أضرب أمثلة لظهوره تعالى فى صور المخلوقات من دون فناء الوجود ومن دون التّغيّر والتّبدّل،
المثال الأوّل - كظهور جبريل عليه الصّلاة والسّلام فى صورة إنسان معروف أو مجهول، من غير فناء خِلقَتِه الأصليّة ومن غير تبدّلها وتغيّرها، 

والمفهوم من المثال الأوّل أنّ الله تعالى خلق سيدنا جيريل عليه الصلاة والسلام من النّور، لا من التّراب ولا من النّار، وخِلقتُه الأصليّة عظيمة جدّا، له جناحان عظيمان واسعان، إذا فرش أحدَهما يَسُدّ الأفق، وقد جاء فى الخبر الصحيح أنّه حمل على جناح واحد بلدةً عاش فيها قوم لوط عليه الصلاة والسلام وعلا بها إلى مسافة مأذُونة له فى الهواء ثم قَلَبها، حتّى خَرُبت البلدة ومات من كان فيها من الإنس، فلم يبق من ذوى الأرواح شيئ، ثم صار ذلك المكان بحرا، كما نراه الآن، ويسمّى المكان المقلوب الآن بَحرَ الميّت،لعدم خلق ذي روح فيه،

وأمّا خِلقته الأصليّة هذه لم تفن ولم تتبدّل ولم تتغيّر بظهوره فى صورة إنسان حين ينزل بالوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهكذا ظهور الله تعالى على صور المخلوقاته، لم يفن وجوده ولو يتغيّر ولم يتبدّل، فكان بعد ظهوره كما كان قبله، وهو الآن كما كان،

وإن كان لجيريل هذه القدرة - التّشكّل بأشكال مختلفة والتّصوّر بصور متنوّعة من غير فناء خلقته الأصليّة الّتي خلقها الله عليها ولا تغيّر فيها ولا تبدّل مع كونه مخلوقا فكيف بالخالق الذي خلق جبريل ومن سواه؟ أهو عاجز عن ظهوره على صور المخلوقات بهذه الكيفية المذكورة،

والمثال الثّاني - كظهور النّور فى تليفيزيّون فى صور مختلفة كالبحار والجبال، والقصور والبيوت، والأشجار والأنعام والأبنية، من غير فناء النّور ومن غير تغيّره وتبدّله، لأنّ ما يراه الإنسان فى تليفيزيّون من المشاهد والمناظر كلّها عين النّور لا غير النّور، كما لايخفى هذا على من تعلّم الهندسة والتَّكْنولوجيّة،

وإن كان للنّور الذي اخترعه المخلوق هذه القدرة - التّشكّل بأشكال مختلفة من غير فنائه ولا تغيّره ولاتبدّله - فكيف بالخالق الذي هو عين النّور كما قال فى كلامه ”الله نور السّموات والأرض إلى آخر الآية “

ومعلوم لدى عقل سليم وفهم مستقيم أنّ النّور له قدرة على التّشكّل بأشكال مختلفة من غير فناء وتغيّر وتبدّل،

المثال الثّالث - كظهور القلب وتشكّله بأشكال مختلفة متنوّعة من غير فنائه - القلب - ومن غير تغيّره وتبدّله، فى عالم الخيال الذي هو النّوم، لأنّ مايراه النّائم فى منامه من المشاهد والمناظر عين صور قلبه وأشكاله،

وإن كان للقلب الذي هو مخلوق هذه القدرة - التّشكّل بأشكال مختلفة من غير فنائه وتغيّره وتبدّله فكيف بالخالق الذّي خلق القلب والقدرة فيه؟

وأمّا الأمثلة الثلاثة المذكورة فهي كافية لمن ترَدّد وتحيّر فى فهم معنى ظهور الله تعالى بصور المخلوقات وأشكالها، وشافية أمراض قلبه التّي حَجَبَتْ عن فهم الحقّ والصّواب، وعن رؤية الحقّ تعالى فى مظاهر خلقه،

فتلخّص ممّا ذكرت أنّ التّوحيد ووحدة الوجود شيئ واحد فى الحقيقة وفي نفس الأمر، ولو اختلفا اسما وشكلا، وأنّ وجود الله تعالى واحد لا كثيرة فيه ولا تعدّد، وأنّ ذلك الوجود هو الوجود المستقلُّ القائم بنفسه، وأنّ ماسواه عدم محض، لا وجود لشيئ سواه، إلاّ بالإعتبار والإضافة والوهم، وأنّ معنى  التّوحيد توحيدُ الكثرة لاتوحيد الوحدة، لأنّ توحيد الواحد محال، بخلاف توحيد الكثرة، لأنّ توحيد الكثرة ممكن،

فيا عجبا من عالم منكرٍ وحدة الوجود مع وضوح الدلائل النقليّة والبراهين العقليّة، وهذا العالم داخل فى قوله تعالى ”لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لايبصرُون بها ولهم آذان لايسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون،

وياعجبا من شيخ يشترط الولاية والذوق والوجد لمن يحدّث بوحدة الوجود، ألم يقرع أذنيه قول ربّه لحبيبه ”أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة“ وإن كان هذا الخطاب خطابا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم فهو يعمّ كلّ داع إلى الله، من العلماء والمشائخ والأساتيذ، والمراد بالحكمة هنا التوحيد الذي فى ضمنها وحدة الوجود، لأنّ تعريف الحكمة يدلّ على ذلك، وأمّا الحكمة فهي علم يبحث فيه عن حقيقة كلّ شيئ، وهو العلم بالله، فكيف يكون كلّ داع إلى الله صاحب الولاية؟

(لكل متفكرّ عبر،ولكلّ منكر ضرر)