Jan 21, 2016

سطور عن الإمام منصور الحلاج

وفي تاريخ ابن خلكان إنّ بعض أصحاب الحلاّج إدّعوا أنّهم رأوه يوم قتله - بعد قتله - وهو راكب على حمار فى طريق النَّهْرُوَان، وأنّه قال لهم ”لعلّكم تظنّون أنّي المضـروب المقتول“، وكان سبب قتله أنّه جرى منه كلام فى مجلس حامد بن العبّاس وزير المقتدر بالله، فأفتى القُضاة والعلماء بإباحة دمه، فَرَسَم المقتدر بتسليمه إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشـرطة، فتسلّمه بعد العشاء خوفا من العامّة أن تنزعه من يده، ثمّ أخرجه يوم الثلاثاء لِسِتٍّ بَقِيْنَ من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمأة عند باب الطّاق، واجتمع عليه خلق كثير وأمر به،  فضـربه الجلاّد ألف سَوط، فما استعفى ولاتأوّه، ثمّ قطع أطرافه الأربعة وهو ساكن لا يضطرب، ثمّ هُزّ رأسه وأحرقت جثّته وألقي رمادها فى دَجْلَةَ، ونصب الرأس ببغداد، ثم حُمِل وطيف به فى النّواحي والبلاد، وجعل أصحابه يعدّون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما، واتّفق أن زادت دجلة تلك السّنة زيادة وافرة، فادّعى أصحابه أنّ ذلك بسبب إلقاء رماده فيها، وادّعى بعض أصحابه أنّه لم يقتل وإنّما ألقي شبهه عند قتله على عدوّ له، ولمّا أخرج ليقتل انشد قائلا،

       طَلَبْتُ الْمُـسْتَقَرَّ بِكُلِّ أَرْضٍ        ***         فَـلَمْ اَرَلِـيْ بِأَرْضٍ مُسْتَقَرًّا 
       أَطَعْتُ مَطَامِعِيْ فَاسْتَعْبَدَتْنِيْ       ***         وَلَوْ أَنّي قَـنَعْتُ لَكنت حُرًّا

ويحكى أنّ الحلّاج أنشد عنه قتله :   

        لَمْ أسلم النّفس للاسقام تتلفها        ***           إلّا لعلمي بأنّ الموت يشفيها 
        ونظرة منك يا سـؤلي ويا أملي       ***         اَشهى إليّ من الدنيا وما فيها 
        نفس المحبّ على الآلام صابرة       ***           لــعلّ متلـفها يوما يداويها

وكان الحلّاج قد صحب الجنيد ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشائخ الصّوفيّة رحمة الله عليهم أجمعين،

وذكر الشّيخ الإمام عزّالدّين بن عبد السّلام  المقدّسيّ  فى ”مفاتيح الكنوز “ أنّه لمّا اُتِيَ به لِيُصلب ورأى الخَشب  والمسامير ضَحِك ضحكا كثيرا، ثمّ نظر فى الجماعة فرأى الشّبليّ فقال يا أبا بكر اَمَا معك سَجَّاد؟  فقال بلى، قال اُفرُشها لي، ففرشها، فتقدّم وصلّى ركعتين، فقرأ فى الأولى فاتحة الكتاب وبعدها ”ولنبلونّكم  بشيئ من الخوف والجوع “ الآية، ثمّ فى الثّانية فاتحة الكتاب وبعدها ”كلّ نفس ذائقة الموت “ الآية، ثمّ ذكر كلاما مطوّلا ، ثمّ تقدّم أبو الحارث السيّاف ولَطَمه لطْمة  هشم وجهه وأنفه فصاح الشبلى ومزق ثيابه، وغُشِي على أبى الحسن الواسطي وعلى جماعة من المشائخ المشهورين، وكان الحلّاج يقول ”إعلموا أنّ الله قد أباح لكم دَمي فاقتلوني، ليس للمسلمين اليوم شغل أهمّ من قتلي، وقال إنّ قتلي قيام بالحدود ووقوف مع الشريعة، ومن تجاوز الحدود أقيمت عليه الحدود،

وقد اضطرب الناس فى أمره اضطرابا كبيرا متبائنا، فمنهم من يعظّمه ومنهم من يكفّره ، وقد ذكر الإمام قطب الوجود حجّة الإسلام فى كتاب ”مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار“ فصلا مطوّلا فى أمره واعتذر من  إطلاقاته كقوله ”أنا الحق“ وما فى الجبّة إلاّ الله، وحملها كلّها على محامل حسنة، وقال هذا من فرط المحبّة وشدّة الوجد، وهو مثل قول القائل،

أنا من أهوى ومن أهوى أنا   ***      فإذا أبصرته أبصرتنا

وحسبك هذا مدحة وتزكية، وكان ابن شريح إذا سئل عنه يقول هذا رجل قد خفي عليّ حاله، وما أقول فيه، وهذا شبيه بكلام عمربن عبد العزيز رحمه الله، وقد سئل عن عليّ ومعاوية رضي الله عنهما فقال دماءٌ طهّر الله منها سيوفنا أفلا نطهّر من الخوض فيهم ألسِنتنا، وهكذا يَنْبَغِي لمن يخاف الله أن لايكفّر أحدا من أهل القِبلة بكلام يصدر عنه يحتمل التأويل على الحقّ والباطل، فإنّ الإخراج من الإسلام عظيم ولايسارع به إلاّ جاهل،

ويُحكى عن شيخ العارفين قطب الزمان عبد القادر الكيلاني قدّس الله سرّه أنّه قال عَثُرَ الحلاّج - زَلّ - ولم يكن له من يأخذ بيده، ولو أدركت زمانه لأخذتُ بيده، هذا وما سبق عن الإمام الغزالي فى أمره كافٍ لمن له أدفى فهم وبصيرة،

سمّي الحلاّج لأنّه جلس يوما على حانوت حلاّج واستقضاه حاجة فقال له الحلاّج أنا مشتغلّ بالحَلْجِ، فقال له إمض فى حاجتي حتّى أحلج عنك، فمضـى الحلاّج فى حاجته، فلمّا عاد وجد قطنه كلّه مَحلُوجا،  وكان لايحلجه عشـرة رجال فى أياّم متعدّدة، فَمِنْ ثَمَّ قيل له الحلاّج، وقيل إنّه كان يتكلّم على الأسرار ويخبر عنها فسمّي حلاّج الأسرار، وكان من أهل البيضاء، بُلَيْدة بفارس، واسمه حسين بن المنصور،
(منقول من حياة الحيوان ص 245 - 246)

وفى قتل الإمام منصور الحلاّج إختلاف وآراء بين العلماء والمؤرّخين، قيل إنّه قُتل بحسد العلماء لالقول صدر منه مخالفٍ للشّريعة، لأنّه ”شِبل الشـريعة “، كما لقّبه علماء ذلك الزّمان، وعالم بعلم الفقه والعقيدة الإسلامية، ووَرِعٌ  وتقي ونقي، فلا يمكن أن يصدر منه قول أوفعل يخالف الشـريعة والعقيدة الإسلامية، وإن كان الحلاّج جاهلا - غير عالم بالدين، فهو ممكن، وأمّا القول بأنّه ادّعى الرّبوبيّة والألوهيّة فهو افتراء عليه، وهكذا قيل فى أمر الحلاّج،

وقيل أيضا إنّه لمّا بلغ من المراتب منتَهاها وجاوز من الدّرجات أقصاها وفنى فى الله بكلّيّته ونسي كلّ شيئ سوى الله نطق الحقّ على لسانه ”أنا الحق“ ولم ينطق الحلاّج باختياره وإرادته، ولم يعلم ماظهر منه حالة فنائه،

إذا بحثنا هذا الأمر بفرض أنّه قال كذلك فلا يحكم عليه بالرّدّة والكفر، لأنّه غائب عنه وعن كلّ شيئ سوى الله تعالى، ولم يقل باختياره وإرادته، فلا يتعلّق به الحكم الشـرعيّ، وهو معذور كما أنّ المجنون معذور، وكذلك النّائم والسكران لعدم اختيارهم فيما يقولون ويفعلون، خيرا كان أو شرّا،

فظهر ممّا قلت إنّ الإفتاء للحلاّج بالرّدّة والكفر خطأ فاحش، والمفتي معاقب، وأمّا إذا قال رجل عاميّ غيرُ فان فى الله ”أنا الحقّ“ فهو معاقب ويحكم عليه بالكفر أو بغيره بعد استفساره مشافهة، ويلحق الفاني فى الله بالمجنون،فلا يحكم عليه بأيّ حكم، بل يترك على حاله،

وأمّا مايقال إنّ سيّد الطائفة جنيد البغدادي رحمه الله وقع فى فتوى القتل فلا أظنّ أنّ هذا الشيخ الكبير وقّع فيه، لأنّه وليّ من أولياء الله تعالى والوليّ لايظلم أحدا ولايفتي أحدا بالكفر  والرّدّة، ولايخالف حكما من أحكام القرآن،

أيّها العالم المنكر وحدة الوجود، والشاتم الشيخ منصور الحلاّج والشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي رضي الله عنهما، وأنت ممّن تنكر الأئمّة ومذاهبهم، ولكنّك تستدلّ لإثبات دعواك - لإثبات كفر وحدة الوجود وكفر القائلين بها - بالإمام عزّ الدين بن عبد السّلام، فواعجبا منك؟ أغلبت حماقتك حذاقتك؟ تنكر الأئمّة وترمي أقوالهم وراء الحائط وفى المزبلة، ثمّ تستدلّ فى خطبتك بالإمام عزّ الدين بن عبد السّلام، أليس هو إماما؟

يافتح الرحمن! غيّر اسمك وبدّله ”بفرج“ الولهان، وأنت غير لائق بنسبة اسمك إلى الرحمن،

يامن ضيّع عمره فى الضّلالة والغواية! انظر إلى قول حجّة الإسلام محمد الغزالي صاحب إحياء علوم الدين، وإلى قوله الشيخ شيخ الطريقة القادريّة محي الدين عبد القادر الجيلاني رحمهما الله رحمة واسعة، عن الإمام منصور الحلاّج، وانظر أيضا إلى ماحكى الشيخ عزّ الدين عبد السّلام فى ”مفاتيح الكنوز“ عن الإمام منصور الحلاّج، أعلوتَ هؤلاء الأئمّة وفُقتهم فى العلوم والمعارف وفى العبادات والكرامات وفى الورع فى الدين؟ أو تستهزأ منهم؟ فتب إلى الله توبة نصوحا قبل أن يحلّ بك عذاب من الله؟ لأنّه قال فى الحديث القدسيّ ”من عادى لي وليا - آذالي وليا - فقد آذنته بالحرب،

والله أعلم بالصواب وإليه المرجع المآب