Aug 19, 2015

تفاصيل وحدة الوجود والفرق بينها وبين الحلول والإتحاد

 - شيخنا المصباحي -

إنّ مسئلة وحدة الوجود ليس فى الأصل إلاّ مسئلة الحبّ والعشق، وإنّ العاشق لمّا كمل عشقه وارتبط قلبه بمعشوقه وتَمَّ استغْرَاقُه بمحبوبه ونسـي عن غيره رأى كل ما رأى عين المحبوب، وهذا القول لا يدلّ على اتحاد الأشياء بالله، بل يدل على المغايرة فى نفس الأمر، والأتحاد المجازيّ بحسب التصوّر والتّخيّل، وهذا هو المراد بفناء العبد فى الله والبقاء به، وهذا لا يخالف الشـرع ولا عقائد المسلمين، وإنّ الوجوديّة لم يُثْبِتُوا فى نفس الأمر الوجود لشيئ من الأشياء سوى الله، هو الموجود حقا عندهم، دون ما سواه، والممكنات بأسرها كالسـراب أمور موهُومة ، إعتباريّة، لا حظّ لها من الوجود ، فلما ثبت أن العالم كله أمور معدومة تُرى كأنها موجودة ، فكيف يمكن أن يَحُلَّ الموجود الحقيقي فى المعدوم ؟ أو المعدوم فى الموجود الحقيقي؟ وكيف يمكن بينهما الإتحاد ؟ فلا ذات للمعدوم كما لا وجود له . فَبِنَاءً على هذا قالت الوجودية بأنّ العالم عينُ الله ذاتا وغيرُه إعتبارا ، ومسئلة وحدة الوجود مسئلة وِجْدَانية وذوقية ، لا يقدر كل واحد أن يُبَيِّنَهَا للناس بيانا شافيا ، 


إن الوجود على ثلاثة اقسام ، واجب الوجود، وممكن الوجود، وممتنع الوجود، فواجب الوجود كذات البارى سبحانه ، وممكن الوجود كذوات المخلوقات ، وممتنع الوجود كعنقاء مغرب، فواجب الوجود قائم بنفسه ابدا ، ولا يحتاج لقيامه إلى غيره، وممكن الوجود قائم بغيره دائما ، فهو محتاج لقيامه إلى غيره دائما، كالإنسان وغيره من المخلوقات. فإن كلها خلق لا حق ، والخلق قائم بغيره ومحتاج إليه ، والغير الذي يقوم به الخلق ويحتاج إليه هو وجوده تعالى وذاته، 

وبالجملة فالخلق أي خلق كان حتى النملة الصغيرة التي لا يدركها بصـر الإنسان محتاج لقيامه إلى وجوده تعالى، فلولا وجوده تعالى لَمَا قام الخلق، فالخلق عرض لا جوهر ، والعرض لا يقوم بنفسه أبدا، بل هو محتاج إلى ذات (وجود) يقوم به ، كالألوان من السواد والبياض والحمرة والصفرة ، فإنها لا تقوم بنفسها أبدا ، بل هي محتاجة لقيامها إلى ذات تقوم بها ، كالبياض المرئي فى اللبن والسواد المرئي فى الفحم والحمرة المرئية فى الدم والصفرة المرئية فى الليمون،

وممتنع الوجود ليس قائما بنفسه ولامحتاجا إلى غيره كالعنقاء فإنه اسمه موجود ووجودُه مفقود، فهو موجود فى الإسم فقط، ومفقود فى الوجود، كقول القائل ”أنا العنقاء اسما لا وجودا “ فلا وجود له فى الخارج البتّة، فكيف يحتاج إلى الغير ما هو مفقود فى الحقيقة، فلذا قلت إنّ ممتنع الوجود ليس هو قائما بنفسه ولا محتاجا إلى غيره، بخلاف واجب الوجود القائم بنفسه وبخلاف ممكن الوجود القائم بغيره، أي بالله تعالى،

إنّ واجب الوجود قائم بنفسه وغير محتاج إلى غيره، وأمّا كونه تعالى قائما بغيره ومحتاجا إلى غيره فمحال فى حقّه تعالى، والسبب للإستحالة عدم الغيرية له تعالى لكونه عينَ الأشياء ، كما قال الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي رضي الله عنه”سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ الْأشْيَاءَ وَهُوَ عَيْنُهَا  “ فلا بدّ لحصول الإحتياج من شيئين المحتاج والمحتاج إليه، وليس فى حق الله تعالى محتاج ومحتاج إليه لعدم الإثنينيّة والغيرية،

ومعنى وحدة الوجود عند العارفين القائلين بها إنّ واجب الوجود واحد، أي ذات الله تعالى واحدة لاكثرة فيها ولا تَعَدُّدَ، وإنّ وجوده هو الوجود الحقيقي فلا وجود سوى وجوده، وإنّ وجود المخلوقات كلها وجود اعتباري وإضافي، لا وجود حقيقي، وإنّ الوجود الحقيقي وجوده تعالى فقط لا محالة، وإنّ ذوات الممكنات أي الكائنات كلها إعتبارية وإضافية لا حقيقية، وإنّ الذات الحقيقية هي ذاته تعالى فقط، كما أنّ الوجود وجوده تعالى، وإنّ وجود المخلوقات كلها مفاض من وجوده تعالى لا من وجود غيره، لأنّ وجود غيره عدم محض حقيقة، وأنّ الوجود وإن كان واحدا بلا تعدد ولا تكثر فشئونات ذلك الوجود كثيرة لا تعد ولا تحصـى، وإنّ الشئونات الإلهية تجلياته عزّ وجل، ولا حصـر ولا انتهاء لتجليه تعالى، وهو فى كل آن فى التجلي، كما قال رب العزة ”كل يوم هو فى شأن“ والشأن جمعه شئون، والشئون الإلهية تجلياته تعالى فى كل حين من الأحيان وفي كل ذرة من ذرات الكائنات، كما أراد وكما شاء، وإنّ الشئونات الإلهية أي تجلّيات الحق سبحان وتعالى عينُ ذاته العلية المقدسة لا غيرها لعدم الغيرية، ولو ظهرت التجلّيات فى أي مظهر مـن الـمـظاهر الخلقية من الإنس والـجنّ والـمحسوس والمعقول، بخلاف المحجوبين القائلين بغيريّة تجلّياته تعالى لذاته المقدسة،